متن الحديث
عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله
تملآن - تملأ - ما بين السماوات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ،
والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه ،
فمعتقها أو موبقها ) رواه مسلم .
الشرح
كان من معجزات
النبي صلى الله عليه وسلم في قومه ما أوتيه من الفصاحة والبلاغة في
كلامه ؛ فعلى الرغم من كونه أميا لا يحسن القراءة و الكتابة ، إلا أنه أعجز
الفصحاء ببلاغته ، ومن أبرز سمات هذا الإعجاز ما عُرف به من جوامع الكلم ؛
فإنه صلى الله عليه وسلم كان يرشد أمته ويوجهها بألفاظ قليلة ، تحمل في
طيّاتها العديد من المعاني ، ولم تكن هذه الألفاظ متكلفة أو صعبة ، بل كانت
سهلة ميسورة على جميع فئات الناس .
وها نحن أيها
القاريء الكريم ، نتناول أحد جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ، فإن هذا
الحديث قد اشتمل على العديد من التوجيهات الرائعة ، والعظات السامية ،
تدعوا كل من آمن بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، أن يتمسك بها ، ويعمل
بمقتضاها .
وأول ما ابتدأ
به النبي صلى الله عليه وسلم وصيّته هو الطهور ، والطهور شرط الصلاة ،
ومفتاح من مفاتيح أبواب الجنان ، ويقصد به الفعل الشرعي الذي يزيل الخبث
ويرفع الحدث ، ولا تصح الصلاة إلا به ، ويشمل أيضا تطهير الثياب والبدن
والمكان .
وقد اختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( الطهور شطر الإيمان ) على
أقوال، منها : أن الإيمان الحقيقي يشمل طهارة الباطن والظاهر ، والوضوء
يطهّر الظاهر ، وهذا يدل على أن الوضوء شطر الإيمان ، واستشهدوا بالحديث
الذي رواه مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من توضأ فأحسن الوضوء ، خرجت خطاياه من جسده ، حتى تخرج من تحت أظفاره ) ، وقالوا أيضا : الطهارة هي شطر الصلاة ؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بطهور ، ومستند هذا القول أن المقصود بقوله في الحديث : ( شطر الإيمان ) هو : الصلاة ، ونظير ذلك قوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } (
البقرة : 143 ) ، أي : صلاتكم ، ومما قالوه أيضا : أن الطهور شطر
الإيمان ؛ لأن الطهارة تُكفر صغائر الذنوب ، بينما الإيمان يكفر الكبائر ،
فصار شطر الإيمان بهذا الاعتبار ، ولعل من الملاحظ أن هذه الأقوال متقاربة ،
وكلها تصب في ذات المعنى .
ثم انتقل الحديث إلى الترغيب في ذكر الله عزوجل ، فقال : ( والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن - تملأ - ما بين السماوات والأرض ) ،
وهذا يبين عظيم الأجر المترتب على هذه الكلمات الطيبات ، فالحمد لله تملأ
الميزان يوم القيامة ؛ وذلك لما اشتملت عليه من الثناء على الله سبحانه
وتعالى والتبجيل له ؛ لذلك يستحب للعبد إذا دعا أن يقدم بين يديه الثناء
الجميل ، مما يكون أدعى لقبول دعائه ، ثم إن الحمد والتسبيح يملآن ما بين
السماء والأرض - بنص الحديث - ؛ والسرّ في ذلك : ما اجتمع فيهما من التنزيه
للذات الإلهية ، والثناء عليها ، وما يقتضيه ذلك من الافتقار إلى الله ؛
وهذا ما جعل هاتين الكلمتين حبيبتين إلى الرحمن ، كما جاء في حديث آخر .
وأما الصلاة ،
فقد وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنور ، وإذا كان الناس يستعينون
على الظلمة بالنور ، كي تتضح لهم معالم الطريق ، ويهتدوا إلى وجهتهم ،
فذلك شأن الصلاة أيضا ، فهي نور الهداية الذي يلتمسه العبد ؛ حيث تمنع
الصلاة صاحبها من المعاصي ، وتنهاه عن المنكر ، كما قال تعالى في كتابه : { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } ( العنكبوت : 45 ) ، ويقوى هذا النور حتى يُرى أثره على وجه صاحبه ، قال الله تعالى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } ( الفتح : 29 ) ، ولن تكون الصلاة نورا لصاحبها في الدنيا فحسب ، بل يشمل ذلك الدار الآخرة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد ، بالنور التام يوم القيامة ) رواه الترمذي .
وإذا كانت
الصلاة من مظاهر العبودية البدنية ، فإن الصدقة تعد عبادة مالية ، يزكّي
بها المسلم ماله ، ويطهّر بها روحه من بخلها وحرصها على المال ، لاسيما وأن
النفوس قد جبلت على محبّة المال والحرص على جمعه ، كما قال الله عزوجل في
كتابه : { وتحبون المال حبا جما } ( الفجر : 20 ) .
ومن محاسن هذه
العبادة - أي الصدقة - أن نفعها متعد إلى الغير ، إذ بها تُسدّ حاجة
الفقير وتُشبع جوعته ، ويكفل بها اليتيم ، وغير ذلك من مظاهر تلاحم لبنات
المجتمع المسلم ؛ الأمر الذي جعل هذه العبادة من أحب الأعمال إلى الله
تعالى ، وبرهانا ساطعا على إيمان صاحبها ، وصدق يقينه بربّه .
ولنقف قليلا مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : ( والصبر ضياء ) ،
لنستوضح دقة هذا التعبير النبوي وروعته ، فإنه صلى الله عليه وسلم قد وصف
الصبر بالضياء ، والضياء في حقيقته : النور الذي يصاحبه شيء من الحرارة
والإحراق ، بعكس النور الذي يكون فيه الإشراق من غير هذه الحرارة ، ويوضّح
هذا المعنى قوله تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا } (
يونس : 5 ) ، فالشمس ضياء لأنها مشتملة على النور والحرارة والإحراق ، أما
القمر فهو نور ، وإذا عدنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم : ( والصبر ضياء ) أدركنا
أن الصبر لابد أن يصاحبه شيء من المعاناة والمشقة ، وأن فيه نوعاً من
المكابدة للصعاب ، فلا ينبغي للمسلم أن يعجزه ذلك أو يفتّ من عزيمته ، ولكن
ليستعن بالله عزوجل ، ويحسن التوكل عليه ، حتى تمرّ المحنة ، وتنكشف
الغمّة .
ثم ينتقل بنا
المطاف إلى الحديث عن القرآن الكريم ، فإن الله عزوجل أنزل كتابه ليكون
منهاجا للمؤمنين وإماما لهم ، يبيّن لهم معالم هذا الدين ، ويوضّح لهم
أحكامه ، ويأمرهم بكل فضيلة وينهاهم عن كل رذيلة ، فانقسم الناس نحوه إلى
فريقين : فريق عمل بما فيه ، ووقف عند حدوده ، وتلاه حق تلاوته ، وجعله
أنيسه في خلوته ، فذلك السعيد به يوم القيامة ، وفريق لم ينتفع به ، بل هجر
قراءته ، وانحرف عن دربه ولم يعمل بأحكامه ، فإن هؤلاء يكون القرآن خصيما
لهم يوم القيامة ، وبين هذا الفريق وذاك يقول الله عزوجل واصفا إياهما : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } ( الإسراء : 82 ).
ثم يتوّج
النبي صلى الله عليه وسلم كلامه بوصية رائعة ، يحدد فيها أحوال الناس
وطبائعهم ، إذ الناس سائرون في خضم هذه الحياة ، يغدون ويروحون ، يكدحون في
تحقيق مآربهم وطموحاتهم ، والذي يفرُق بينهم : الهدف الذي يعيشون لأجله ،
فمنهم من سعى إلى فكاك نفسه وعتقها من نار جهنم ، فباع نفسه لله تعالى ،
ومنهم من جعل همّه الحصول على لذات الدنيا الفانية ، وشهواتها الزائلة ،
فأهلك نفسه وباعها بثمن بخس ، قال الله عزوجل : { ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها } (
الشمس : 7 – 10 ) ، فمن زكّى نفسه ، فقد باعها لله واشترى بها الجنة ، ومن
دسّ نفسه في المعاصي ، فقد خاب وخسر ، وكتبت عليه الشقاوة في الدنيا
والآخرة ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته ، ويكرمنا بدخول جنته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق