متن الحديث
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم .
الشرح
ترتبط خيرية هذه الأمة ارتباطا وثيقا بدعوتها للحق ، وحمايتها للدين ،
ومحاربتها للباطل ؛ ذلك أن قيامها بهذا الواجب يحقق لها التمكين في الأرض ،
ورفع راية التوحيد ، وتحكيم شرع الله ودينه ، وهذا هو ما يميزها عن غيرها
من الأمم ، ويجعل لها من المكانة ما ليس لغيرها ، ولذلك امتدحها الله تعالى
في كتابه العزيز حين قال : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } ( آل عمران : 110 ) .
وعلاوة على
ذلك فإن في أداء هذا الواجب الرباني حماية لسفينة المجتمع من الغرق ،
وحماية لصرحه من التصدع ، وحماية لهويته من الانحلال ، وإبقاء لسموه ورفعته
، وسببا للنصر على الأعداء والتمكين في الأرض ، والنجاة من عذاب الله
وعقابه .
ولخطورة هذه
القضية وأهميتها ؛ ينبغي علينا أن نعرف طبيعة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ، ونعرف شروطه ومسائله المتعلقة به ؛ ومن هنا جاء هذا الحديث ليسهم
في تكوين التصور الواضح تجاه هذه القضية ، ويبين لنا كيفية التعامل مع
المنكر حين رؤيته .
لقد بين
الحديث أن إنكار المنكر على مراتب ثلاث : التغيير باليد ، والتغيير باللسان
، والتغيير بالقلب ، وهذه المراتب متعلقة بطبيعة هذا المنكر ونوعه ،
وطبيعة القائم بالإنكار وشخصه ، فمن المنكرات ما يمكن تغييره مباشرة باليد ،
ومن المنكرات ما يعجز المرء عن تغييره بيده دون لسانه ، وثالثة لا يُمكن
تغييرها إلا بالقلب فحسب .
فيجب إنكار
المنكر باليد على كل من تمكّن من ذلك ، ولم يُؤدّ إنكاره إلى مفسدةٍ أكبر،
وعليه : يجب على الوالي أن يغير المنكر إذا صدر من الرعيّة ، ويجب مثل ذلك
على الأب في أهل بيته، والمعلم في مدرسته ، والموظف في عمله ، وإذا قصّر
أحدٌ في واجبه هذا فإنه مضيّع للأمانة ، ومن ضيّع الأمانة فقد أثم ، ولذلك
جاءت نصوص كثيرة تنبّه المؤمنين على وجوب قيامهم بمسؤوليتهم الكاملة تجاه
رعيتهم - والتي يدخل فيها إنكار المنكر - ، فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (
كلكم راع ومسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل في
أهله راع وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن
رعيتها ، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته ، فكلكم راع وكلكم
مسؤول عن رعيّته ) ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن عاقبة الذين يفرطون في هذه الأمانة فقال : ( ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة ) .
فإذا عجز عن التغيير باليد ، فإنه ينتقل إلى الإنكار باللسان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإن لم يستطع فبلسانه ) ، فيذكّر العاصي بالله ، ويخوّفه من عقابه ، على الوجه الذي يراه مناسبا لطبيعة هذه المعصية وطبيعة صاحبها .
فقد يكون التلميح كافيا - أحيانا - في هذا الباب ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ؟ ) ،
وقد يقتضي المقام التصريح والتعنيف ، ولهذا جاءت في السنة أحداث ومواقف
كان الإنكار فيها علناً ، كإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد -
رضي الله عنه - شفاعته في حد من حدود الله ، وإنكاره على من لبس خاتم
الذهب من الرجال ، وغير ذلك مما تقتضي المصلحة إظهاره أمام الملأ.
وإن عجز
القائم بالإنكار عن إبداء نكيره فعلا وقولا ، فلا أقل من إنكار المنكر
بالقلب ، وهذه هي المرتبة الثالثة ، وهي واجبة على كل أحد ، ولا يُعذر شخص
بتركها ؛ لأنها مسألة قلبيّة لا يُتصوّر الإكراه على تركها ، أو العجز عن
فعلها ، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : "
إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد : جهادٌ بأيديكم ، ثم الجهاد بألسنتكم ،
ثم الجهاد بقلوبكم ، فمتى لم يعرف قلبه المعروف وينكر قلبه المنكر انتكس " .
وإذا ضيعت
الأمة هذا الواجب بالكلية ، وأهملت العمل به ، عمت المنكرات في المجتمعات ،
وشاع الفساد فيها ، وعندها تكون الأمة مهددة بنزول العقوبة الإلهية عليها ،
واستحقاق الغضب والمقت من الله تعالى .
والمتأمل في
أحوال الأمم الغابرة ، يجد أن بقاءها كان مرهونا بأداء هذه الأمانة ، وقد
جاء في القرآن الكريم ذكر شيء من أخبار تلك الأمم ، ومن أبرزها أمة بني
إسرائيل التي قال الله فيها : { لعن الذين كفروا من
بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ،
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } ( المائدة : 78 - 79 ) .
وتكمن خطورة
التفريط في هذا الواجب ، أن يألف الناس المنكر ، ويزول في قلوبهم بغضه ، ثم
ينتشر ويسري فيهم ، وتغرق سفينة المجتمع ، وينهدم صرحها ، وفي ذلك يضرب
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا رائعا يوضح هذه الحقيقة ، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ،
فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من
الماء مرّوا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ
من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم
نجوا ونجوا جميعا ) رواه البخاري .
إن هذا الواجب
هو مسؤولية الجميع ، وكل فرد من هذه الأمة مطالب بأداء هذه المسؤولية على
حسب طاقته ، والخير في هذه الأمة كثير ، بيد أننا بحاجة إلى المزيد من
الجهود المباركة التي تحفظ للأمة بقاءها ، وتحول دون تصدع بنيانها ، وتزعزع
أركانها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق