متن الحديث
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
كل سلامى من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس : تعدل بين اثنين
صدقة ، وتعين الرجل في دابّته فتحمله عليها أو ترفع له متاعه صدقة ،
والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن
الطريق صدقة ) رواه البخاري ومسلم .
الشرح
سبق وأن بيّنا في مقال سابق أن للصدقة
مفهوما واسعا لا يقتصر على بذل المال وإنفاقه في أوجه البرّ والخير ، وأنه
يشمل كثيرا من الطاعات والعبادات التي تبرهن على صدق صاحبها في عبوديته
لربّه تبارك وتعالى ( والصدقة برهان ) ، كما
وضّحنا أن من الصدقة ما يكون نفعها قاصرا على العبد ، ومنها ما يكون نفعها
متعدّ إلى الذين من حوله ، وفي الحديث الذي بين يدينا أتى التركيز على تلك
الأعمال التي يعمّ خيرها على الجميع ، فيتحقّق بها الائتلاف بين لبنات
الأمة ، وتجتمع القلوب على كلمة سواء ، ومحبة دائمة .
وهنا يبتديء النبي صلى الله عليه وسلم حديثه بتذكير المؤمنين بنعمة عظيمة من نعم الله عزوجل على الناس فيقول : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ) ،
إنه تذكير بعظمة الله وقدرته على خلق الإنسان والإبداع في تركيبه وتنظيم
عمل أعضائه ، على نحو تعجز عنه طاقات البشر وإمكاناتهم ، وقد جاء التذكير
الرباني بهذه النعمة في عدة مواضع من كتاب الله ، يقول الله عزوجل : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } ( النحل : 78 ) ، ويقول أيضا : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك } ( الانفطار : 6 – 8 ) .
وهذه النعمة العظيمة تتطلب من الإنسان شكرا لها ، وهذا الشكر سببٌ لمباركة هذه النعم ودوامها .
وقد يظن البعض أن شكر النعم يكون باللسان
فقط ، والحقيقة أن هذا لا يكفي ، نعم : الشكر باللسان أمر مطلوب شرعا ،
ولكن ينبغي أن يضمّ إليه الشكر بالعمل ، فيحقّق بذلك أعلى درجات الشكر
للخالق ، وحين نستعرض الصور التي وردت في الحديث الذي نتناوله ، نجد أكثرها
يدخل في باب الشكر بالعمل .
فالعدل بين المتخاصمين شكر على نعمة اللسان
الذي نطق بالحق ، وشكر على نعمة العقل الذي أعان العبد على اختيار الحق
والقضاء به ، وشكر على نعمة الهداية والتوفيق التي أعانت على الإصلاح بين
المتخاصمين ، ولو مضينا في ذكر هذه النعم فلن نحصيها عددا ، وحسبنا أن نعلم
أن هذا العمل الخيّر هو من أفضل القربات إلى الله عزوجل ، كما أنه سبب
تلتئم به المشاحنات التي تحصل بين الناس ، فهو إذا صدقة على المجتمع المسلم
.
والصورة التالية التي ذُكرت في الحديث : ( وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له متاعه صدقة ) إنّه
مثال حيّ على قضية التعاون على البرّ والتقوى ، ووجه من وجوه التكافل
الإنساني ، لاسيما وأن الفرد بطبيعته لا يستطيع أن ينفرد بقضاء شؤونه كلها ،
بل لابد له من الاستعانة بغيره ، وهذه سنة الله في خلقه أن جعل الناس
يتخذون بعضهم بعضا سخريّا ، فإذا قام كل فرد بإعانة أخيه وتوفير حاجته ،
انتشرت المحبّة بين المؤمنين .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( والكلمة الطيبة صدقة ) :
فهو حديث عن صدقة من أعظم الصدقات ، إنها الكلمة الطيبة ، فكم كان للكلمة
الطيبة من أثر واضح على كثير من الناس ، ولكم تناهى إلى أسماعنا من قصص في
القديم والحديث تدل على أثر الكلمة الطيبة ، يروي أحد السلف قصته فيقول : "
كنت غلاما حسن الصوت ، جيّد الضرب بالطنبور ، فكنت مع صاحب لي وعندنا نبيذ
وأنا أغنّيهم ، فمر عبدالله بن مسعود رضي
الله عنه ، فدخل فضرب البساط وكسر الطنبور ، ثم قال : لو كان ما يسمع من
حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت!! . ثم مضى ، فقلت لأصحابي : من هذا ؟
، قالوا : هذا عبدالله بن مسعود ، فألقى الله
في نفسي التوبة ، فسعيت أبكي وأخذتُ بثوبه ، فأقبل عليّ فاعتنقني وبكى ،
وقال لي : مرحبا بمن أحبه الله " ، فلك أن تتخيّل أن كل عمل عمله هذا الرجل
إنما هو في ميزان حسنات عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، والسبب في ذلك : كلمة طيبة وافقت ساعة هداية .
وللكلمة الطيبة وجوه متعددة وصور متنوعة ،
فهي الذكر لله عزوجل ، وهي الشفاعة الحسنة التي تقضي للناس حوائجهم ، وهي
التسلية للمصاب لتخفف عنه بلاءه ، وهي الموعظة الصادقة التي ترشد العباد
إلى ربهم ، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهي كل ما يُسرّ بها
السامع ، وما يجمع القلوب ويؤلفها .
ثم يأتي الحث على حضور الصلوات في المساجد ، لإدراك الخير ، وتحصيل الأجر ، وقد ورد في فضل ذلك الكثير من الأحاديث ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) ، وقال أيضا : ( من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح ) متفق عليه .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) ففيه
إشارة إلى أن جميع الأعمال الصالحة التي تصدر عن العبد تحقق معنى الشكر ،
مهما كان هذا العمل صغيرا في نظر صاحبه ، دقيقا في مقياس الخلق ، وفي هذا
دلالة على عظم هذا الدين وشموليته .
وختاما :
فإن أعمال العباد كلها لا تساوي قدر أقل نعمة من نعم الله المتكاثرة ،
فلئن كان شكرها لا يوافي قدرها ، فلا أقل من رعاية الحواس حق الرعاية ،
وصيانتها من استعمالها في غير مرضاة خالقها ومولاها ، لعل ذلك يكون أقل ما
يجب.نسأل الله التوفيق والسداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق